مؤمن وحكيم.. ينعم بتواضع الكبار ووطنية الآباء-المؤسسين

 

رحل البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير حاملاً معه هموم لبنان الى أبعد من الحياة. رحل البطريرك صفير ومعه تُطوى صفحة من صفحات لبنان المجد والسيادة والاستقلال.

لم يكن صفير رجلاً عادياً. فلو كان لما أثار في حياته وبعد مماته “الصخب” الذي شهدناه، والتطرّف في المواقف تجاهه، التي وصلت الى حد التجنّي لمقامه من قِبَل اشخاص من المفترض ان يكونوا على مستوى الحدث.

شاء القدر ان أكون من الذين حظوا بثقة البطريرك صفير، ما سمح لي بأن أواكبه في أحد أدق مراحل ولايته البطريركية، بل احدى أخطر محطة من تاريخ لبنان الحديث. ما يخوّلني ان اشهد به وله.

بدأت الحكاية بلقاء “غسل قلوب” بيني وبين غبطته في الصرح البطريركي في الديمان. والعتب كان اننا لم نستطع خرق “جدار” سكرتيره الخاص للقائه واسرة “الدبور”، بعيد إعادة إصدارها في العام 2000. كان يأتينا الجواب آنذاك “غبطته منّش فاضي” !

وكما ان “الدبور” لا ينام على جرح، اتى جوابي على ترحيب البطريرك “اهلاً بالأستاذ مكرزل” بالقول: “بشكرك على استقبالي سيّدنا مع أنك منّك فاضيلنا”. استغرب البطريرك وسأل ما سبب “لسعتي”، فسردت له قصتنا مع “الموعد الذي لم نحظ به”، وتبين انه لم يكن على علم بالأمر، ورطّب الأجواء مازحاً بذكاء “شفت يا أستاذ مكرزل، البطرك آخر من يعلم ماذا يدور في أروقة الصرح”.. ضحك واضحكني. سأل عندها البطريرك: “شو في شي جديد؟”، هذا السؤال الذي يبدو عادياً بل مبتذلاً عادة، رافقته ابتسامة شرّعت الأبواب لحوار دون ضوابط البروتوكول والأعراف واللغة الخشبية والتصنّع.

طال الحديث وتخطّى الوقت المقرّر بأضعاف. وعند دخول الأب عرب للمرة الثانية مذكّراً، قال له غبطته وهو يبتسم لي، “تركنا.. انا متفضّى للأستاذ مكرزل وما عندي موعد غيرو اليوم”. سمح لي البطريرك، بل حثني بطرحه جملة أسئلة، التطرّق الى مختلف الملفات الساعة من سياسية واجتماعية وحتى دينية، وأجبت بصراحة تامة وكثير من الجرأة، حيث انتقدت أداء الكنيسة وحتى البطريركية. وفي النهاية سألني: “وشو الحل بنظرك؟”.

لم أكن مستعداً لمثل هذا السؤال، وأجبت عنه من نصفي العلمي:

– كل الأخطاء ناجمة الجهل وعدم التخطيط المسبق، لذا من المفترض ان ننتقل الى المعرفة ومن الاعتباطية الى الاستراتيجية..

– ما معناه؟ سأل غبطته

– ما معناه، إنشاء مركز للتوثيق والأبحاث تابع للبطريركية يزود البطريرك بالحقيقة.

– انا موافق.

بهذه الكلمتين أنشأ البطريرك صفير مركز الأبحاث البطريركي.

خلال لقاءاتي الاسبوعية والبطريرك صفير و”التمشاية” بعد الغداء، تعلّمت الكثير من رؤياه وحكمته. تداولنا بأمور كثيرة في شتى المجالات، من سياسية الى اجتماعية الى فلسفية، أذكر بعض اقواله:

– كترة الحكي من عجز العقل.

– تسمّع منيح من دينتك وحلّل كتير بعقلك، وما تصدّق الا فكرك وقلبك.

– إذا شفت بلدك من زاويتك وبسّ.. بتحجّمو.

– المزح في جَدّ أكتر من غيرو، فيك تقول من خلاله كل الحقيقة بلا ما تجرح حدا .

– ما تحمل بلادك على كتافك لأنك فان.. دعّملو وجودو تا يبقى من بعدك.

– في ناس بيفكّروا من فوق وناس بيفكّروا من تحت.. فوق في القلب والعقل، تحت في الجيبي والغريزة.

– انا شايف مصلحة لبنان هيك.. اذا غلطت، على الأقل بكون صادق مع حالي وبلدي.

ذهب البطريرك الحكيم ويبقى كلامه محفوراً في الاذهان. منهم من يعتبره قدّيساً، ومنهم من يعتبر انه أخطأ. منهم من يعتبر انه سياسي بامتياز، ومنهم من يعتبر انه كان من الأفضل ان يتنسّك. نحن الذين عرفناه عن قرب نقول: علّمنا البطريرك ان ننظر اليه كإنسان فان، محدود القدرات والمواهب، يعمل من اجل لبنان وشعبه بقدر ما يستطيع، ويخشى الخطأ دون ان يتهرب من اتخاذ القرار. كان يسأل الكثير ويقول القليل، ولا يثق الاّ في حفنة من المقربين، لكن مع تحفظ الذي “عاش كتير وشاف كتير”.

ولو طُلب مني ان أصف البطريرك مار نصر الله بطرس صفير بكلمات أقول: مؤمن وحكيم، ينعم بتواضع الكبار ووطنية الآباء-المؤسسين وبساطة الماروني الأصيل.

جوزف مكرزل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى